فلاحة احتلت قلب المغرور الجزء الخامس بقلم هبة شرارة
طالت وقفتي في وسط فناء المنزل وأنا أتجول بعيون متحجرة في جنباته وقفت متبلدة المشاعر انطق بكلمات مكبوتة ها أنا أعود بعد أن نزع مني القدر آخر ذرة أمل خارج لسانه ساخر مني يتهمني بالجنون في انتظار أمل مدفون تحت الرماد
ولأول مرة أرى البيت خرابا يتدلى منها أسراب الخفافيش وتحوم حولي تصفع وجهي أجنحتها تطالبني بالرحيل
دلفت حجرة أبي وصفعت الباب خلفي وخطوات نحو الجسد النائم على سطح السرير. كانت الجثة كاملة البدن لا ينقصها غير الروح نظرت لها بمشاعر باردة جافة ودخلت بعض النسوة وأنا أطوح جسدي وأزمجر
قوم يبابا قوما أنا محتاجة لك
اندفع الكثير من الأجساد المتشحة بالسواد تجذبني خارج الحجرة انصرمت بجدار من البيت وأخي حسين يلصق جسدي به ويقذفني بالفزع الشتائم وعيون النسوة تحدق فيه تتهمني بانتهاك حرمة الميت
التفت في دائرة من الرعب واتسعت حدقة عيني وأنا أسدد نظرات حادة لموكب الجسد وهو يرحل
انفجرت عاصفة من العويل تشحن الجو بالاضطراب والاختناق وأسرعت أمي إلى الطين الملتف حول الطلمبة ووضعته فوق رأسها تمزق ثيابها تنبش بمخالبها الأرض وهي تتلوى بين أيد ملفوفة بالسواد
وفي فناء بجوار المنزل حضر الناس من كل مكان بالبلدة يقدمون العزاء وقامت خالتي فاطمة الأخت الوحيدة لامي والفرد الوحيد الباقي من أسرتها باعداد الطعام والشاي وقام أحمد بتوزيعه على الجالسين ودار حسين بعلبة السجائر وبعد صلاه المغرب خرجت النسوة يتشحن بالسواد يحملن صوان الطعام الى الى الرجال المجتمعين في الفناء
وبعد ان انتهت مراسم الجنازة قضيت ليلتي وانا اعاني من نوبات الصداع التي تدق راسيا حاولت اقتناص دقائق من النوم أسفل أغطية السرير التي تسبح حولها الاشباح وعند اذان الفجر سمعت اقدام اخي احمد وهو يتوضأ وهمسات عم منصور وهو يقرأ القرآن بعيون غامرة بالدموع
سحبت جسدي من تحت أغطية السرير وأحكمت الغطاء حول زينب وخطوات التمس الطريق نحو حجرة ابي
وفي حجرة امى كانت تجلس بجوار نافذة مرت عليها ساعات وهي تطل من من فراغ القضبان الحديدية لا يجذب انتباهها اي حركه سواء داخل البيت او خارجه تضع يدها على خدها لمحتها تبكي بكاء دون دموع اخاف عليها ان تظل هكذا حتى تترك نفسها فريسة لليأس
وعلى سطح سرير ابي لمحت صورته تأنيا من المرض جلست على سريره ا ودفنت راسيا بين احضانه لمحت بجوار السرير غطاء رأسي اسرعت بالتقاطه ووضعته على وجهي أتشبع برائحته وفي هذه اللحظة اندفعت في راس افكار شيطانية تدفعني لإنقاذ ابي من طيات القبر
اندفعت الى الخارج واسرعت أطوي الارض وانا اواصل العدو من شارع الى شارع لا أرى إلا ما بداخلي حتى بلغت حافة النهر حيث توارت البلدة خلف أشجار النخيل ولم يعد يظهر منها غير الاراضي الزراعيه وبالقرب من الجبانة الهدوء رهيب يتربع على عرش الفضاء لم اعد اسمع اي شيء سوى صدى الكلاب المسعورة
على الضفة الاخرى من النهر تتوارى الجبانة خلف أشجار الجزورين العملاقة التي تعيش فوقها الغربان هواءها يحمل رائحه الصبار اتجهت نحو المعدية وما ان وقفت على الضفة الأخرى وضحت الجبانة
ها هو قبر ابي يجلس وحيدا في هذا المكان ترى هل هو سعيد؟ هل كان يشتاق لرؤيتي؟
أحاطت حطام القبر بذراعي ثم ارتطمت على الأرض وقذفت بصرخه تبددت في الفضاء الواسع انادي عليه اطالبه بالنهوض من مكانه لينقذني من العذاب الذي اعيش فيه
وبعد قليل شعرت بيد تربت على كتفي عندما التفت وجدت رجلا عجوزا لم يترك له الشيب شئ سوى شعرة واحدة سوداء له جبهه عريضه ناصعة البياض يرتدي جلبابا بني اللون يتكئ على فرع من فروع الجزورين
انبسطت كلمات المواساة من بين شفتيه الغليظتين ورغم ضعف جسده إلا أنه كان ينبض بالحياة السامية البعيدة عن اي تلوث تصنعه يد البشريه
شعرت بالراحه في كنف كلامه الذي سحر عقلي ومنحنى رغبة قوية في التمسك بالحياة والصبر على أفعالها البشعة لم أشعر بالرعب ولا الفزع من هيئته التي تبدو كانه أثر تركه لنا التاريخ بل شعرت بسحر عجيب ينقلني بعيدا عن الأم وأحزاني وعندما أنهى جملته الأخيرة
ارمي همومك وراء ظهرك وخذي من الدنيا على حسب قدرتك أخرج من جيب جلبابه مصحف وطلب مني الاحتفاظ به ووضع يده على رأسي وبدأ يرتل بعدد من الآيات القرآن الكريم
وعندما ازدهر قرص الشمس على صفحات السماء وانعكست أشعتها فوق حجارة الجبانة ناشدني بالعودة حاولت أن
استجمع في حلقي عددا من الأسئلة أتعرف من خلالها على هذا المجهول الذي استبد بي وتحكم فيه ولكن الاضطراب عقد لساني تراخي الشيخ في جلسته وقال لي إن أنا أعيش في هذا المكان إلى الأبد ولن أغادره وعندما تشعرين في قرارة نفسك بالحديث معي لن تجديني إلا هنا والآن هيا انهضي للعودة إلى منزلك طوقته بذراعي وشعرت أني طوقت خيالا لم أشعر بدم ولحم مثل أي إنسان
وفي طريق العودة طاف برأس نزهة بلا هدف فعلى شاطئ النهر وقفت أملأ صدري بالهواء المنعش تنقلت عيني على أسراب النساء التي تتجمع على حافته يغسلن الملابس المتسخة والحلل التي أكلتها النيران وفوق سطح الماء تكدست مراكب الصيادين الذين نصبوا شباكهم طالبي الرزق يتصاعد منهم أغان للترويح عن أنفسهم
رفعت طرف جلبابي وبللت قدمي بالماء وأنا أراقب أطفالا يتواثبون هنا وهناك
انعطفت في الطريق إلى البلدة وانا ادق الارض واتمايل على انغام مزمار يحمله صبيا يلتصق باحد جذوع الشجر ينفخ في مزمار لتتصاعد منة مقطوعة رقيقة حزينة
وعندما أشرفت على البيت نفضت عن جلباب تراب الجبانه الذي علق بي وشاهدت امي ما زالت تطل من بين قضبان الشباك تحدق في فراغ ابدي وقفت أراقب ما بداخل البيت من الركن المفتوح من الباب كان حسين يجلس بجسده القوي بجوار عمي منصور على الحصير يرتشفون الشاي وقال حسين وهو يمسح مع علق من الشاي بشاربه
جهزي نفسك عشا هتسافري العصريه
وأضاف العم منصور وهو يبلل باطن يده ويربت على بقايا شعره العالقة براسه الداكن تحت الطاقية
كنت فين يا عود ازاي
أجبته والكلمات تتعثر على شفتين
كنت كنت في الجبا نة
نهض حسين من على الحصير ونفض جسده المفتول العضلات وتحدث لي بغضب
هو أنت مش ناوية تجيبها لبر أنت ماكليش جرعات هنا ثانية واحدة
ونظر لعم منصور وهو يهدئ من ثورة غضبه
ضده بعد إذنك يبابا الحاج أنا تروح أجهز الركوبة
طوح عمي منصور رأسه بالموافقة
كان حسين عنيفا غليظ القلب يجلس على عرش البيت لا لينشر العدل بل ينشر مبادئه التي تعبر عن ذاته تلك المبادئ التي صنعت منة شخصية صعبة الإرضاء شخصية تتفنن في إدخال الرعب في قلوب الآخرين حتى في مراحل ضعفه يبدو قاسيا ورغم أنه العائل الوحيد للأسرة إلى أنه لا يستطيع أن يتجاهل نفسه فكان يدخر معظم المال الذي يكسبه ويعطي أمي القليل وتقع أمي في دائرة من الحيرة
كيف تستطيع أن تتدبر أمر الأسرة بهذه الملاليم وعندما تقف عاجزة تطالبه بالمزيد يختلق أسبابا مصحوبة بغضبه ويكرر الكلمات المعتادة أن الرزق قد ضاق والدكان مش جاب همها وأنه لا يملك اللظى ولولا هذه الأسرة التعيسة لكان من أنجح شباب البلدة وأغناها
يتبع الفصل السادس