رواية فلاحة احتلت قلب المغرور بقلم هبة شرارة
الجزء الأول
عشت بمنزلي الصغير مدة لا تزيد عن ثمان سنوات جسدت تلك السنين اجمل ايام حياتي لم اشعر بالوحده يوما واحدا .كان لي وجه ينطق بالسعاده فهذا البيت الصغير رمز مجد الحب الذي غمره .كنت اثق بجدرانه المصنوعة من الطين انني زهرته وانه لن يتخلي عني مهما قسى عليه الزمن.
لم أحلم بشيء في هذه الدنيا اكثر من ان اعيش في احضان هذا العش الهادي وكان الشيء الوحيد الذي يطمئن قلبي الابتسامه التي ارتسمت على جدرانه المتاكلة ولونه المكتسب من الطبيعه .
فجنتي الوحيدة عندما كنت ابعد بخيالي بعيدا لم اجد جنه افضل منه ومهما مر الزمن لا استطيع فك أسرار وطلاسم سر تعلقي بهذا المنزل الضئيل
يتقدمه باب قديم أكله الصدأ ولكنه رغم ذلك يؤدي دوره على اكمل وجه في وسطه سلم من الطين يؤدي الى السطح
كثيرا ما كنت العب وانا اقفز على قدم واحده فوق درجاته واعد من واحد الى خمسه هذه الأرقام تعلمتها من ابن الجيران ولم اعرف أكثر منها على مدار عمري كله .
يتصدر السلم طلمبة كانت فتيات الحارة تتجمع حولها يملأن الصفائح اما اسفل السلم يوجد فرن مصنوع من الطين.
كان يوم الخميس يوم عالمي بالنسبة حارتنا الصغيرة فمع شروق الشمس تحضر كل واحده من صديقات امي عجينها ويجلسن في حلقة يديرها هذا الفرن .
يتجاذبن أطراف الحديث عن إحداهن تزوجت واخرى طلقها زوجها كنت اجلس بجوار أمي تصنع لي الحنون وعباره عن رغيف عيش بالسمن والسكر وعندما تنتهي من صنعه انطلق أعدو في الحاره فكان مجرد وسيلة افجر بها غيظ البنات.
في الجانب الآخر من الدار يوجد غرفتين إحداهما غرفه ابي وامي يتوسطها سرير ذو أعمدة حديدية ينطق بوقار الحجرة وهيبتها فلم يجرؤ أحد من أهل هذا البيت دخولها بدون استئذان .
حوائط الحجر عارية من كل شيء ما عدا قطعه من مراه معلقة فوق مسمارين. يتخللها شباك هذا الشباك الشاهد على قلق أمي وهي تنتظر أخي حسين الكبير .
حسين يعمل بالليل في قهوة عمي حسونه فنحن في امس الحاجة الى المال الذي يتقاضاه من عمله بالقهوة بعد أن اقتحم المرض جسد أبي وأصبح يلزم الفراش أيام وأحيانا أسابيع
فعندما كان أبي في كامل صحته كان يعمل في السكة الحديد يخرج من الصباح ويعود بعد العصر ومع أول خطوة له في الدار وهو على الباب ينادي
بنت يا نفيسه حضري الغداء
لتسرع امي بالاجابه….. حاضر يا سي عبد الله
كنا نلتف جميعا حول الطبليه انا واخواتي احمد وحسين وزينب ويسرد احمد قصصه المتكررة عن بطولاته الساذجه انا ضربت ابن فلان وابن فلان قال كذا وابي يشجعه ويربط على كتفه وهو يقول
جدع يا احمد طالع لابوك
ولم يمر يوم وأي فرد من أفراد هذه الجلسة غير موجود. وبعد الغداء يدخل ابي حجرته للقيلولة وتجلس امي مع جارتها على عتبة الدار وتتكرر احاديثهن المملة وتنتهي بشكو امي بالالم في ظهرها كلما جلست على الارض.
ونعود الى غرف الدار الحجره الثانيه التي كان بها سرير ليس بفخامة سرير ابي وامي ولكن نحمد الله علي أن لدينا سرير ننام عليه فكثيرا من الجيران ينامون على الحصير أو فوق سرائر مصنوعة من الطين .
السرير بالكاد يتسع لي ولاخوتي ويا لا لروعته بالشتاء حيث الدفئ الذي يتولد من احتكاك أجسادنا أما عن الصيف بشع لدرجة انني كنت اتركه وانام على الأرض رغم ما يعانيه جسدي من الرطوبة ولكن الرطوبة ارحم من الحرارة التي تنفث من جدران الدار
وننهي جولتنا پاجمل شيء في بيتنا المتواضع هو السطح مع كل صباح أصعد فوقه واملا جوفي بالهواء الممزوج بعطر الريحان أراقب أشعة الشمس وهي تفرش الحقول وأسراب الحمام وهي تغادر اعشاشها اراقبه وهو يحط فوق السطح ويلتقط الحب ويشاغب بعضه.
.يوجد على مرمى البصر الأراضي التي تزينت بخضرة البرسيم والمياه تتراقص على حافة الترعة فكل شيء في جنتي مريح للأعصاب.
هكذا عشت طوال الخمس سنوات الماضية وذات يوم وانا اجلس في وسط الحاره اصنع دمي من الطين تلك الهواية التي أصنع من خلالها دنيا خاصه بي فاجأني أخي الكبير وهو يمد يده ليلتقط جسدي الهزيل. ارعبتني لمسة يده وقلت له وانا استغيث…
.
النبي يا حسين متقول لامك مش هالعب ثاني في الطين
لم اجد منه اجابه غير نظره مختلطه بخليط عجيب من المشاعر وعندما دنا من باب الدار دفعه برجله ودفعني في احد اركان الدار
جلست وانا الف يدي حول نهدي الصغيرين ودفنت وجهي بين كفي وبكيت بحرقه لعل البكاء ينجدني من هذا الموقف المخجل ومن عصا امي المغلفه بصرخاتي انا واخوتي.
انتفض جسدي وحبات العرق يتفصد من جبيني انتظر عقاب امي. نظرت الى باب غرفة أبي فوجدته مستلقي في أحضان سريره كعادته.
ذاك السرير الذي عانى كثيرا من مرضه يجلس بجواره عم الحاج منصور هو أكبر اعمامي يعيش في قرية تابعة لمركز زفتى تبعد عن قريتنا بمسافة تستغرق ساعتين سفر.
عم الحاج منصور لا يغادر قريته الا في الشديد القوي يبدو أن هناك شيء مهم هو الذي دفعه لزيارتنا ورغم حب الاستطلاع الذي سيطر عليه ولكني لا أعبأ لشيء أكثر من عقاب امي..
نظرت لها بعين منكسره ممتلئه بالدموع استدرج عطفها ولكنها جلست في صمت مخيف ليس هذا من عادتها لعلها تنتظر مغادره عمي الحاج لتفجر قنبلتها في وجهي.
اقترب مني اخي وقال لي…
قربي يا بت سلمي على عمك الحاج
خطوت بضع خطوات نحو هذا العجوز يستقبلني بذراعيه ويضمني إلى صدره وهمس لي
ازيك يا عود الزاد اخبارك ايه
دس يده في جيب جلبابه واخرج قطعه حلاوه وهو يقول
شوفي عمك الحاج جاب لك ايه
خطفت القطعة بسرعه شديده واندفعت أغمره القبلات فوق وجهه وانا اشكره ضمني اليه مره اخرى وقال
ان شاء الله هاجيب لك كل يوم حلاوه
قلت له بسذاجة …..
هو انت هتقعد معنا يا عم الحاج
أطلق ضحكته في الهواء وهو يقول
لا انت اللي هتقعدي معنا انا قلت لابوك وهنسافر بعد العصر
هز ابي راسه في انكساار مؤكدا كلام عم منصور وقال لي أنني سوف أعيش في سعادة اكثر من وجودي معهم فعم الحج ليس لديه اولاد واقترب على الخامسة والخمسون .
طلب من ابي ان ياخذ احد من ابنائه لراعيته يملأ عليه فراغه وفي نفس الوقت يخفف عنه حمله الثقيل وخاصة ان ابي مريض والحمل اصبح ثقيل على اخي
فوافق ابي ورشحني لكي أقوم بهذه المهمة.أحمد لديه دراسته وحسين العائل الوحيد لنا بعد مرض أبى اما زينب ما زالت صغيرة تحتاج لرعايه امي
الإنسان الوحيد المناسب لهذه المهمة أنا كما أنني ورقة رابحة بالنسبة لهم فعم منصور يمتلك منزل بالحديد المسلح
خمس قراريط وليس لديه ولد ولا ورثة غيرنا ووجودي معهم يطمئنهم على الميراث فانا بمثابة عينهم هناك اندفعت نحو أبي والقيت بجسدي في احضانه وانا اتوسل له بصوت مخلوق من الدموع......
لا يابا انا عايزه اعيش معكم وهعمل كل حاجه تقول لي عليه اساعد امي في الخببيز وهكنس الدار اغسل الغسيل هعمل كل حاجه بس سيبني اعيش معكم
جذبني اخي بصعوبة من بين احضان ابي وطرحني على الأرض وهو يسبني صرخت في وجهه
اني مش هسيب الدار
اهتزت مع صرختي جدران البيت وانطلقت عاصفة غضبي نحو امي وانا الومها لانها تخلت عني بسهوله الم اكن طفلتها المدلله تمشط لي شعري و تحكي لي حكايتها المثيرة حتي أغرق يعالم النوم.
لماذا تخلت عني الان حاولت انتزاع صمتها المخيف ولكنها اكتفت بنظرات ساهمه وقفزت من مكانها لتسحق انفعالاتي واتجهت نحو أبي وهي تقول
انا هروح أحضر الغداء يا سي عبد الله
ايقنت انه لا سبيل للنجاة غير الاستجابة لرغبات امي التي لا اعرف هل سيقوى جسدي النحيل على احتمالها
جلست أتناول طعام الغداء بين اسرتي وانا لا اعرف هل هذه هي اخر مره وبعدها ساودع هذه الطبليه التي طالما جمعت شتات أسرتي.
على قدر حبي لها الا انني أمقتها الآن فهي مثل ابي وامي لم تقم بأي اعتراض على رحيلي وفضلت الصمت .
انظر لابي وامي واخوتي لا أحد ينطق بكلمه ولكن امي قطعت الصمت الذي خيم علينا وهي تقول
قومي يا عود الزين لمي خلجاتك لاحسن قدامك سفر طويل
اقطع قطعة من رغيف العيش وادور بها في الطبق انظر لابي مرة أخرى وهو يملأ فمه بالطعام ويبتلعه بسرعه يعود ليملأه مرة اخرى يبدو ان لديه شهية جيدة للطعام كان شيء لم يكن.
كنت اتمنى ولو للحظات يشعرني فيها بانه اقتطع جزء من لحمه رغما عن ارادته حتى ولو تظاهر بهذا الشعور ولكنه انكمش داخل جلباب مكتفيا بدور المتفرج
تخرجني امي مره اخرى من دوامه حيرتي لكي أتناول غذائي قلت لها انني انتهيت من طعامي. ونهضت من مكاني ثم دلفت الى احدى الغرفتين لاجمع اشيائى البسيطة .
دخلت امي خلفي و رتبت على كتفي ووعدتني ان هذا الوضع لن يستمر طويلا .شعرت بان هذا الوعد اكبر من قدراتها ونكست راسي اسفا على حالي وعدت لجمع أغراضي
اخبرت امي عم منصور انني مستعده اخذ العجوز راحة يدي لتنام بين يديه في استسلام عجيب وعند عتبة المنزل اهتزت أرضه احتجاجا على قهري.
انكمشت الشمس التي تتسرب من نوافذه وهرب هوائه ليحل محله رماد الفرن واشتدت قوه الريح في الخارج وازداد صوت حفيف الاشجار
عندما خطوت عدة خطوات شعرت أقدامي متجمدة كلوح الثلج توقفت القى نظره اخيره على بيتي رأيته منكسر منكمش كان كل جدار يئن فراقي ودعته بعيون غامره بالدموع
تابعت سيري مع العجوز الذي دهست اقدامه دميتي التي صنعتها من الطين لتنتهي حياتها وحياتي في هذا المكان
وفي الطريق تخيلت جميع الماره يشيرون الي يقذفوني بكلمات جارحة تدينني لأنني فرطت في حق من حقوقي وشعرت بان قهر الدنيا كله وضع على كاهلي
هاجمنا سيل من الأمطار فلجأ العجوز لشجرة تطل على الشارع الرئيسي ابتعدت عنه قليلا لحقني بندائه ولكني لم أعبأ بندائه ولا بالمطر الذي انهال فوق راسي
تركت مشاعري للذكريات الجميله وانا اقفز تحت المطر جذبني يحرمني حتى من هذه الهواية التي كنت اهواها منذ الصغر ودفن جسدي بين طياته جلباب
استقلينا سيارة متجهة نحو كفر المنشاوي حيث منزله تحركت السياره بسرعه شديده تطوي الارض لا تعبا بالامطار الغزيره تاركه خلفها خطان من الطين من أثر عجلاتها
شعرت بألم بجسدي تحسسته جزء جزء لم اجد اي اثر عليه يدل على ما اشعر به أتحسس رأسي فلم أجد غطاء راس القرنفلي الذي اهداه لي أبي عندما ارتفع راتبه الى خمسة قروش.
انخرطت في بكاء مرير سألني العجوز عن سبب عودتي للبكاء قلت له انني فقدت غطاء راسي ضحك وقال لي انه سيشتري لي واحدا غيره ولكنني لا اريد غيرهذا الغطاء
دفعني برفقه وقال لي انني متعبه وسببت له صداع نظرت من زجاج نافذة العربة ولكن الرذاذ المتناثر عليها حجب عني رؤيه ما تطويه عجلات العربة من المباني والمزارع
ارتخيت بجسدي بجانب العجوز لعلي اقتنص دقائق من النوم غرقت في نوم عميق انتشلني من القلق ودفع بي في اعماق كابوس مرعب لم انسى منه لحظة واحدة
شاهدت بركة من الوحل وعند محاولتي للخروج منها يدفعني عدد من الوجوه غير واضحة المعالم مره اخري للبركه
انتشلني العجوزه من هذا الكابوس المرعب وهو يهزني ليخبرني بأن استعد فالعربه اشرفت على الوصول لتبدأ رحلتي نحو المجهول
يتبع الفصل الثاني